ضحك كالبكاء .. ومقالتنا الساخرة:
(شِعرٌ بقوة ستة شنيور !!)
سعد محمود شبيب
لم يكن حسّون شنيور طالبا معنا في المرحلة الجامعية الأولى ، بل ظلّ ماكثا عند المرحلة الثالثة قدر مكوث نوح في قومه ، إذ رسب في المرحلة الأولى مرتين وفُصل، وأتمّ خدمته العسكرية خلال حرب إيران ، ثم أعيد ولم يلبث أن فُصل ثانية ، ودخل دهاليز عالم السوق وبيع الإطارات ، وعاد ثالث مرة ليصل المرحلة الثالثة بشقّ الأنفس ، فصرنا نشعر حقا ونحن نجالسه بوجود (حقبة) زمنية تفصل بيننا ، وأنه ينتمي إلى جيل آخر غير جيلنا..
ومع ذلك فقد أحببناه وألفناه وصرنا نميل إلى مجالسته نظرا لكرم نفسه وطرافة حديثه وطيبه الذي يبلغ أحيانا حدّ السذاجة المفرطة .
وللحق، فلم يكن يعيب حسون هذا سوى عقدة واحدة تتلبسه على وجه من الوجوه ، ألا وهي تيقنه من كونه (شاعرا) موهوبا ، يسيّر المعاني حيثما شاء ، ويطوع القوافي كيفما ابتغى ، وينسج من الشعر ما يذهل الإنس والجن، في يقظته وعند منامه، ، علما أنّ علاقته بالشعر تماثل علاقة الحاج (عنجر أبو الشلغم ) بهندسة الغواصات النووية ..
هذا الوهم العظيم – أحبّتي- أوقعه في مطبات أعظم ، منها يوم كان طالبا في المرحلة الإعدادية خلال السبعينيات، وأرسل إلى مجلة ألف باء هذه (القصيدة) :
حبّك يا سلوى يمزّقني ..
يحطّمني يؤرّقني
يشتّتني .. يجمّعني
يكوّرُني ويحشرني
عندها رد عليه محرر الصفحة بالقول : (( في البرميل المناسب .. بإذن الله)
ورغم أنّ مجلة ألف باء خلال هذه الحقبة ، تعدل في حدّ ذاتها قمرا صناعيا مثل النيل سات ، وستّ فضائيات وأربعَ وكالات أنباء ، مما يعني أن الشاعر الكبير شنيور قد تعرض إلى فضيحة خالدة خلود نهر النيل وأهرامات مصر ، إلاّ أنه وكما يبدو كان يؤمن بمقولة مصطفى كامل أن لا يأس مع الحياة ، لذا فلم يعرف القنوط إلى قلبه سبيلا ، وبقي منهلا للشعر الهابط ، ونبعا للقصائد المأسوف على سماعها ، ومصدرا من مصادر تكدّر بحور الشعر بالتفاهة والضحالة والغث من الكلام .
كان شنيور على الدوام منفوش الشعر كمن هرب من ديار ثمود يوم العاصفة ، طليق الذقن مثل مشركي قريش ، ينفث دخان السكائر بشكل متلاحق وكأنه عجلة انتهت صلاحية محركها منذ مائة عام ، لا يغادر النادي حتى كنا نظن أنه حصل على إذنٍ بعدم حضور أية محاضرة ، والاكتفاء بسماعها عن طريق التراسل الباراسايكولوجي عن بعد ، أو بواسطة الأقمار الصناعية !!
ذات صباح شتائي قاتم ، دخلت نادي الجامعة هاربا من درسي، فناداني غاضبا محمرّ الوجه ، وكان حانقا يتطاير الشرر من عينيه وهو يشتم الدنيا وما فيها ، ثمّ ما إن جلست قربه حتى صار يضرب بيده على المنضدة وهو يتمتم مع نفسه بكلمات غير مفهومة، وحين طالبته بالتوضيح ، دَعَك ذقنه بشدة ، وأشعل سيجارة على عجل وصار يردّد : كيف يجرؤ عميد الكلية على سحب هويتي لمجرد أني لم التزم بالزي الموحد ؟ كيف لا يحترم عمري ومكانتي بين أهلي وخلاني ؟ تالله لقد نظمت فيه قصيدة هي أقسى من هجاء أبي الطيّب لكافور ، ولأجعلنّه فيها أضحوكة للعالمين ، الراحلين منهم والماكثين ..
ثم لم يلبث أن استل ورقة ، وتلا علي أبياتا في ذمّ العميد ، لو ألقاها في محفل عام لألقي القبض عليه وحكم بالإعدام سلقا حتى الموت ليس لهجائه العميد ، بل لارتكابه جريمة نظم الشعر ، إذ أن أبياته بلغت من التفاهة حدّ أنها لا يمكن أن تكون أكثر تفاهة مما هي عليه ، حتى لو خطها بقدميه ، راسما الأحرف كيفما اتفق وهو مغمض العينين !!
وهنا ، حاولت أن أهدّيْ من روعه مشيدا بعبقريته وذكائه وجمال نظمه ، طالبا منه أن يستمع إلى اكتشاف خطير ولد في لحظة تأريخية لا يمكن أن تتكرر ، ذاك أن صوره الشعرية وتجلياته الغرائبية بلغت حدا لا يمكن وصفه بحال من الأحوال، وعليه فأنه لا يستحق أن يكون شاعرا كبير أو عظيما فحسب ، بل ينبغي أن يوصف على نحو جديد ..
وحين طلب مني باهتمام بالغ أن أوضح له الأمر أكثر ، أجبته أنّه قد دخل مرحلة الخلود الأدبي ، وكما تم اختيار اسم أمبير مقياسا لشدة التيار تخليدا للعالم أمبير ، والفولت والواط تخليدا للعالمين الساندرا فولتا وجيمس واط ، فينبغي أن يكون اسم شنيور وحدة لقياس قوة وجودة القصيدة الشعرية ..
كانت نظراته تكاد تلتهمني وهو بين مصدّق ومكذب ، لا سيما وأني طرحت عليه الأمر بمنتهى الجدية وكأني محمود درويش وهو يرتقي المنصة ليلقي قصيدة عصماء دفاعا عن القضية ، ثم أتممت حديثي بصعوبة تامة والضحك المكبوت يكاد أن يوقف قلبي وقلت :
– أخي الحبيب ، أن الأمر بسيط للغاية ، فنحن ندرس القصيدة ثم نقيّم شدّة جمالها بالشنيور ، فقصيدة أبي العتاهية في وصف الموت تبلغ شدّتها ثمانية شنيور ، وقصيدة إبراهيم طوقان (موطني) شدّتها سته شنيور ، وملحمة أبي الطيب في مدح سيف الدولة قد تتجاوز ثمانية ونصف ، وذلك على مقياس شنيور المؤلف من تسع درجات ..
وهنا سألني بسرعة وبلهفه : طيب وقصيدتي التي هجوت بها العميد وقد هزّتك من الأعماق ؟؟
أجبته : أنها تساوي صفرا على مقياس شنيور المؤلف من تسع درجات !!
لا أعلم حقيقة ما الذي قذفني به وأنا ألوذ بالفرار ، ولم أستمع إلى كلماته بحقي حين هبطت على السلم ، ولا أعلم إن كان قد هجاني بقصيدة مدوية كهجائه العميد ، أو لم يفعل ، وكل ما أذكره أنّي لم أنم ليلتي تلك جراء وخز الضمير ، وأني قدمت نحوه منذ صباح اليوم التالي مقبّلا رأسه طالبا منه السماح، فلم يك مقصدي سيئا البتة ، وأنّ ما ابتغيته هو تلطيف جوّ متكدر حزين نتيجة غضبه واكتئابه ، فتقبل اعتذاري بصدر رحب وقلب لم أجد أطيب منه طوال حياتي .
استمرّ (حسون) يمارس حياته طالبا في النادي ، شاغله الأوحد هو كتابة القصائد في التغزل بالحبيبة وجمالها ورقة حديثها ، والمستقبل الجميل الذي ينتظرها معه حين تترك كل شيء لتكون شريكة حياته في التواجد الخالد تحت سقف النادي المقدس ، حتى حدث ما لم يكن بالحسبان البتة ، إذ صدر قرار من رئاسة الجامعة يقضي بفصله من الكلية وبشكل تام ، وذلك لتجاوزه السن القانونية للدوام كطالب جامعي ، حين اكتشفت مديرة التسجيل أنه ينتمي إلى عصر السلف الصالح رضوان الله عليهم ، وأنه وان كان طالبا في كلية الهندسة بجامعة بغداد ، إلا أنه شخصيا أقدمُ من كلية الهندسة ومن بغداد ، وكل ما عليه فعله هو ترك الجامعة والالتحاق بأقرب (جامع) يقضي فيه بقية عمره عن شيخوخة صالحة زكية مباركة !!
أصابنا جميعا حزن كبير لحاله ، وحين قدمنا لمواساته ، فوجئنا بأنه لم يكترث للأمر كثيرا ، فمسألة الفصل من الدراسة تتكرر (كفصلٍ) من فصول السنة عنده ، وأنه سيتمم حياته في العمل الحر لطالما لم يسعفه الحظ ليتمم دراسته ، كما وعلمنا أنه قرّر ترك نظم الشعر بعد فصله بعام وبلا رجعة ، إذ تقول أصحّ الروايات سندا أنه قد حظي بزيارة شاعر العرب الأعظم المتنبي في عالم الرؤيا، وكانت معه امرأة وطفل ، ثم خاطبه بلا أدنى مقدمات :
– يا شنيور ، أوصيك وما على الرسول إلا البلاغ ، أوصيك أن تترك الشعر لأهله ، قبل أن يمزق الفارس عنترة قبره ليقطع رأسك كما أبلغني ، فقد أمست أبياتك عذابا للكفار والمؤمنين، وللأولين والآخرين .
– طيب ، ومن هذه المرأة التي معك أبا الطيب ؟
– هذه زوجي أم الطيب ، وقد قرّرتُ التفرغ معها لشؤون الدار بعدما أصبح مثلك شاعرا، ننتظر معجزة توظيف ولدنا (الطيب)أسوة بالعالمين ، ونتطلع لسعادة شعب العراق قُبيل يوم الدين..
– وما مغزى كلامك كله شاعرنا ؟؟
– ((قصدي خلصنه من كافور ، إجانه الكفر نفسه، وبعد لتلح وعوف الشعر لخاطر الحمزة)) !! .
وللحق ، فانّ ما ذكرني بقصة الأخ حسون هذه الأيام ، هو مراجعتي لتسجيل الجامعة قبل أسبوع ، اذ مثلت أمامي قضيته ، وكيف راجعنا نحن صحبه هذا المكان في محاولة يائسة لثني العمادة عن قرار فصله ، كما وتفتقت ببالي في طريق العودة فكرة القياس هذه ، الا وهي إيجاد وحدة قياس تخص العراق وحده ، اذ أنّ فرنسا وضعت وحدة لمقياس الجمال، كما وضعت الامارات وحدة لاحتساب السعادة ، أما في العراق فنحن بحاجة ماسة لوحدة قياسٍ الفساد واللصوصية، وعلى نفس نسق مقياس الطيّب شنيور ، فيمكن لنا القول ، أن هذا الوزير سارق بمقدار تسعة عبد الفلاح المؤلف من عشر درجات ، وأن النائبة خزيمة بنت الأعمش فاسدة بمقدار ثمان درجات على مقياس (حمديّة الجاف ) المؤلف من ثمان حمديّات ..
وإذا ما شئنا الدقة أكثر ، فان الأسماء التي تستحق التخليد في عالم الفساد عندنا كثيرة ، ضاقت بها مزبلة التأريخ نفسها والعمل قائم على قدمٍ وساقٍ في سبيل إعمارها وتوسيعها ، لكن المأساة الكبرى تكمن في كيفية تصنيع جهاز يمكن له استيعاب وقراءة فساد رؤساء الكتل وحيتان الأحزاب ، ذاك أنك وما أن تضع اسما لأحد الغيلان ، حتى يتعرض الجهاز للتفجير والتهشيم ، محدثا زلزالا مدويا يصل تأثيره الى مصارف دول في أقصى المعمورة ، بعد أن يعطيك قراءة مقدارها ألف فاسد وفاسد ، وذلك على مقياس الفساد المؤلف من تسع درجات ، سارقات، ناهبات !!