كان حديثُ خبيرةِ الإستراتيجية العسكرية الأوربية هادئًا و ناضجًا، و هي من أصول عربية مغاربية، و تدَّعي أنَّ السيدات أفضل وزيراتٍ للدفاع، في قارة أكثر وزراء الدفاع فيها من النساء..
سألتني عن بوادر الجيل الخامس؟!!، أجبتها إنَّا في العراق ما زلنا في الجيل الرابع، و أنَّ العراقيين يدفعون أعلى أجور للمكالمات، و بأسوء خدمات إنترنت.. ضحكت بعمق، و بضحكة نسوية متقطِّعة تكاد تكون (طقطوقة موسيقية)، قالت: أسألكَ عن الجيل الخامس للحرب؟؟؟!!!،
قلتُ لها ضاحكًا:
لنعُد إلى الجيل الرابع و نتذاكر ..!!!!
قالت: في الجيل الرابع الأقوياء المستعمرون يزرعون حكومات فاسدة، سواء أكانت ديمقراطية أم ليبرالية، علمانية أم دينية، ذات نزعة عسكرية أم مدنية، ثُمَّ يوجدون بيئةً لدولةٍ مترهلةٍ ينعدم فيها النمو الإقتصادي و مواكبة الأمم في تقدُّمها، و يدفعون الشعب إلى الإستكانة و الخضوع، فيعيش الأزمات و يبحث عن فرص العيش في ظلِّ نقص خدمات التعليم و الصحة و الإسكان و الطرق و الرعاية الإجتماعية، و بذلك يبدأ تدمير الشباب و الكفاءات و تهجير العلماء و الخبراء، و هذه عادةً ما تكون المرحلة الأولى التي تدفع إلى المرحلة الأخطر ألا و هيَ: غياب الوعي بالوطنية و القبول بالعمالة للأجنبي و خدمة مصالحه، و يتبع ذلك الإبتعاد عن القيَم و الأخلاق و المقدسات و العرف و العائلة، و بعد ذلك سوف تشيع البطالة و تتزايد الجريمة و تتفشى الإباحية و المِثلية الجنسية، و انتشار المخدرات في ميادين الزراعة و الصناعة و التجارة، ويتم الترويج لها تعاطيًا و ترغيبًا.
في هذه المرحلة تنشأ مافيات للمخدرات و القمار و تجارة البشر و تجارة الأعضاء البشرية و تجارة الآثار و تجارة الأعراض و الدعارة و الرياضات المنحرفة، و تكون هذه المافيات متغلَغةً في المجتمع و الدولة و تتسيَّد على الحكومة، و تتمتع بعلاقات و ارتباطات سياسية و إقتصادية و مالية مع المُحتلِّين الأقوياء و مخابرات الدول الأجنبية و شبكات التجسس، و تمتد في تأثيرها لتصل إلى النفوذ في اختيار الحكومة، و فريق الدولة الأمني و العسكري و المِلاك الدبلوماسي..
أما المرحلة الثالثة فتشمل: دعوةُ المُحتَلِ إلى الدخول في البلاد و السيطرة على مقدَّراته و التحكُّم في استقلاليته مقابل توفير فرص للحياة و العمل و البقاء.
و بذلك تنهار كلُّ مقوِّمات المجتمع و الدولة، فلا تبقى للأسرة وشائج و لا للمجتمع قيَم، و تسود المُشاعية الجنسية و الإجتماعية، و تنحصر التجارة و الصيرفة و المال و السلاح بيد شبكة المافيات و العصابات المسلحة و التي يكون ولائها للمُحتَلِ..
قلتُ لها: هذا ما يُسمِّيه الخبراء الأمريكيون باستراتيجية (التآكل الذاتي و الإنهيار البطيء)، لأنَّ الإنهيارَ السريع قد يُبقي للمجتمع بعضَ القيَم، و للمدن بعضَ البُنى التحتية و مقوِّمات الإعمار، و للإنسان بعضَ الإصرارِ و الهِمَّة في العودة للبناء و الحفاظ على مقوماته الحضارية و وجوده الإنساني..
إنَّ الجيل الرابع هو نسخة من استراتيجية (النخر) و (النقر) ، فالنملُ الأبيضُ (الأَرَضَةُ) أسقطَ القلاعَ و القصور الخشبية العملاقة بفِعل نخره المحتوى، و سحلية نقَّار الخشب هدَّت (سَدَّ مأرب) اليمني التأريخي الشهير…
قلتُ: هناك دفَّان يحفر القبور في النجف إسمه (خضر) إتصل قبل سبع سنوات بصديقه (أبي يُسُر)، مُبَلِّغًا إياه بأنَّ قبرَ أبيهِ قد تهدَّمَ بفِعل (شفلات) البلدية التي تقوم بتوسيع شارع المقبرة، ذهب (أبو يُسُر) إلى الدَّفان و أعطاه نصف مليون دينار ليبنيَ القبرَ و يرعاه، و في عيد الأضحى زار قبر أبيه ورآه. و لكن بعد سنة إتصل الدَّفَّان ليُبلِّغَ (أبا يسر) أنَّ قبر أبيه تهدَّمَ بسبب الأمطار الغزيرة و تجمُّع المياه لكونه في منطقة منخفضة..
ذهب صاحبي و أعطى الدفان نصف مليون دينار ليبنيَ القبر و يعمِّره و يرعاه..
و بعد سنة إتصل الدفان بصاحبي و أبلغه بأنَّ (أبا تكتك) دمَّر القبر لأنَّ القبر على الشارع.
ذهب صاحبي و أعطى الدفان نصف مليون دينار مُتذمِّرًا و قالَ للدفان (راح أصرف لكَ مخصصات إعادة إعمار قبر أبي سنويًّا)، لأني كل سنة أدفع لك نصف مليون دينار، و هذا آخر مبلغ أدفعه لك) هذه السنة، إتصل الدفان بصاحبي و لكن صاحبي بادرَهُ بالقول: حچي خضر هل أنا الوحيد الذي دفن أباه و ابتلى بقبره، شنو هو ميت لو مكفخة للشفل و التكتك و المجاري و الحرامية؟! و قاطعه الدفان: عيني أبو يسر إسمعني.. قبل سبع سنوات جابَو ميت ليس له أهل تبرعت الناس بدفنه و دفناه بجنب أبيك، و من فلَّش الشفل بعض القبور، المرمرة المكتوب عليها إسم أبيك انكسرت فأخذها أحد الدفانين و وضع نصفها المكسور بقبر الميت الفقير، و أنا ظننت أنه قبر أبيك، و نحن من سبع سنين نعمِّر بقبر (الميت الفقير)، و قبر أبيك مهدَّم ولم يَرَ التعمير مطلقًا.
قلتُ: الجيل الخامس هو دفان القبور يجد كلَّ الوسائل لابتزازك. الحرب بين أمريكا و إيران هي في الحقيقة حرب على دول الخليج العربي و العراق و العرب، فنحن نهتف ضد أمريكا و بعضُنا يهتف ضد إيران، و الحقيقة نحن مَن ندفع لغيرنا، و نعمِّر لغيرنا، في الجيل الخامس الحرب وهمية إعلامية إستعراضية بين قوتين تشتركان في الحصول على الغنيمة من الحماية و السوق و النفوذ من طرفٍ ثالث مندَفعٍ و متحمِّسٍ لتشجيع أحد أطراف النزاع. ودَّعتها.. و هي تضحك ضحكةً نسويَّةً رقيقةً..
لنا و للعراق ربٌّ لا تأخذه سِنَةٌ و لانوم،
ربٌّ رحيمٌ عظيمٌ حيٌّ قيُّومٌ…
أ.د. ضياء واجد المهندس
مجلس الخبراء العراقي