*الويلُ… من زائرةِ الليلِ.*
أ.د. ضياء واجد المهندس
بعدَ صلاةِ العِشاءِ سمعتُ طرقَ بابٍ بشكلٍ لم أسمع رنَّةً مثلَهُ من قبل..
خرجتُ بجسدٍ مُتعَبٍ من يومٍ شاقٍّ كثُرَت فيه اللقاءات، و زادَ في الهمِّ و الثُّقلِ تهميش كفاءات و خبراء العراق، و اللجوء إلى أشباه و أنصاف المتعلمين في تسليم زِمام الدولة لهم…
فتحتُ البابَ، فوجدتُ إمرأةً ستِّينيَّةَ العمرِ، يملءُ وجهها الوَشَمُ (الدَّكات العربية القديمة)، تحسبُ وجهَها خارطةَ بلدٍ، أو منحدراتٍ و تضاريسَ و ليس تجاعيد تركها الزمنُ عليها…
قالت: مرحبًا..
أجبتُها: أهلًا و سهلًا…
قالت: هاتِ خمس.. ذهبتُ من حيث لا أشعر و بلا وعيٍ إلى محفظتي لأُخرِجَ منها خمسة آلاف دينار، في حين إعتدتُ أن أُعطيَ لطارقي الباب ألفَ دينارٍ..
وجدتُها إفترَشَت الأرضَ، و قد وضعَت منديلًا أبيضًا أقرب أن يكون إلى شالٍ أبيضٍ.. تأملتُها،
وجدتُها إمرأةً بزِيٍّ لم أرَ مثلَهُ منذُ زمنٍ.. ثوبٍ فضفاضٍ، كُحليِّ اللونِ، و فوقَه سِترةٍ طويلةٍ من غير أردانٍ، و تلبسُ حجابًا غريبًا، عليه عصبة قديمة (چرغد).
أخرجَت من حقيبةِ قماشٍ خضراءَ داكنةٍ حدَّ الزيتونيِّ، مجموعةَ أحجارٍ غريبةٍ، كُراتٍ صخريةٍ ملوَّنَةٍ، حلزوناتٍ، صَدَفٍ، حصىً متعددةِ الألوانِ، بعدها أخرجَت قَدَحًا من جِلدٍ مُقَوًّى…
أعطتني صدفًا ملتصقًا بحلزون و قالت: وشوش!!!. بالرغم أني سامع هذه الكلمة سابقًا لكني لا أعرفها.
قلتُ: ماذا يعني؟؟؟، قالت: إنوي، و اطلب؟؟..
في أعماقي كنتُ أقولُ: مالذي تفعله هذه الدجَّالة: فقد كَذَبَ العرَّافونَ و لو صدقوا..
و لأني لا أؤمن بالقراءة و الفنجان، فقد قلتُ كلامًا ليس له معنىً في الحلزون..
تعصَّبَت العجوز ، وقالت: إنوي و لا تدمدم!!!!
قلتُ في سرِّي: ما الذي عَلَيَّ أن أفعله ياربِّ، لأسمعه على لسان هذه العجوز؟؟؟!!!
قالت: إسمع يا بحر الشمس، جسمك عليل، و همَّك ثقيل، و صبرك طويل، و زادك قليل، ترجى الدليل من ربٍّ جليلٍ في قوم ما فيهم ابن آدم أصيل…
قاطعتُها: تتفضلين بالمطبخ على الأقل لأن الجو حار عليك.. قالت: إنتَ وحيد ، و راسك عنيد، يعطوك ما لا تريد، يمنعوك عن ما تريد، عملك مفيد، و قلبك خفيف و لكنه أقسى من الحديد..
قلتُ: حچية، شالسالفة، آني ضياء مو شمس و كلامك ما أفهمه..
قالت: و جعلنا من الشمس ضياءً و من القمر نورًا.. ثُمَّ تنفَّسَت بعمقٍ و تنهَّدَت و قالت: عدوانك إكثار، و أحبابك إفقار، و أصحابك إصغار، الله حاميك، و نبيَّه يباريك، أجلك بلسانك، الله منجِّيك من إلي معاديك، و ربك مرقيك من إلي إيكيد بيك.. لا ترد مظلوم، و لا تقصِّر على المحروم، عينك على الحُرمة، إجزلها بالنعمة، إسندها بالشدة و بالضيق، هي عينك بكل طريق، و دعاؤك و منجيك من كيد العِدا و فرقة الصديق.. عينك على بناتك، لِمهِن تحت جناحك، و آمنهن من العقارب، و امنحهن المطالِب… عمرك طويل بهمِّ الناس، و فزعتك إلهُم، و أن ترتاح تنزاح، لا تتعجل الخير و لا على العدل تنزاح، إن كنت صالح لنفسك، لكن إبقى لديرتك مُصلح…
قلتُ لها: هل أستطيع أن أراكِ مرةً ثانيةً؟؟؟؟!!
رفَعَت رأسَها، و وجدتُ عينَيها الذابلتين قد غرقت في دمعها الذي إنسابَ على خدَّيها المُجعَّدتَين، قالت:
لن تراني بعد اليوم، و إن حَكَمَ الأمرُ و الفصلُ فستراني في منامك و قد إقتربَ منكَ الأجل….
قلتُ: حجية، ما الذي عَلَيَّ فِعلَهُ!؟؟؟؟؟….
قالت و هي تنظرُ إلى مجموعتها من الأحجار و الأصداف و الحصى و الذي تبعثره بين الحين و الآخر: إذهَب إلى ربِّكَ بكلامِ الحقِّ، إمشي بدرب الله و رسوله، و أكثِر من ذِكرِهِ و دعائك و ترديد قوله، لا تهنىء بمنامٍ، و لا تستلِذ بطعام، و لا تتلعثم بكلام إلى أن يُريكَ السلامُ منزلةَ المحبِّ العالي المَقام..
قمتُ لأجلبَ لها قنينةَ ماءٍ، أعطيتُها الماءَ، و ذهبتُ لأُعِدَّ لها الشايَ، و عُدتُ إلى الغرفة لأُخرِجَ لها ٢٥ ألف دينارٍ لأهبها لها هديةً…
خرجتُ فلم أجِدها، بل وجدتُ قنينةَ الماءِ وَضَعَتها فوقَ ورقةِ ال ٥ آلاف دينار..
خرجتُ من الباب و نظرتُ إلى الشارع الأمامي و الشارع الجانبي، فلم أرَ أحدًا…
اللهمَّ اجعلنا من عبادك المطيعين،
و انصُرنا على القوم الظالمين،
أنتَ مولانا فارحمنا يا أرحمَ الراحمينَ.